السبت، 27 أكتوبر 2012

فى بطن الحوت ( قصة قصيرة بقلمى )


كان الجو رائعاً ، وقد غرّدتْ العصافيرُ



على شرفة المنزل ، فكل شيئ اليوم

 يوحى بالجمال ، فاليوم هو الاثنين

 الثانى عشرَ
  من أكتوبر 1992 ، وهو

 عيد ميلاد زوجتى الأسبانية


وكم ستفرحُ طفلتى هايدى كثيراً

 لهذا الاحتفال
  ولرؤية جدتها والتى

 تدللها كثيراً
  وتُحضر لها ألعاب الأطفال

 التى تحبها ....


وما إنْ أذن لصلاة العصر حتى

حضرتْ الحاجة
  أم أكمل لاهثةً

 لصعودها الطابق السابع


نظراً لتعطل المصعد ، ثم راحتْ

 تصلى فرض الله ، وأخذ أكمل

 يداعبُ طفلته ، ومازالتْ زوجتُه


مشغولةً بإعداد الحلوى ، للاحتفال

بيوم ميلادها ....


كم هى حُلوة هذه الدنيا !...


كم نلاقى فيها مانتمناه!...


رغم مظاهر الفرح إلا أنَّ قلب أكمل كان


يحدوه القلقُ ، ولايعرفُ سبباً لذلك ...


وفجأةً بدأ الاهتزازُ ... فى زلزال ...


لم تشهدْ له القاهرةُ شبيهاً له من قبل


وأخذ صوتُ انشقاق الحوائط يعلو ويزدادُ


وارتفع نواحُ النساء من كل حدب وصوب


والكل عاجزٌ عن فهم مايحدثُ ...


واختلفتْ الآراءُ :


- فالبعض جرى مذعوراً زاعماً بأنه

 يوم القيامة
  ، وأخذ يذكرُ الله مستغيثاً ..

- والبعض الآخر يقولُ بأنها إسرائيل وقد


خرقتْ معاهدتها فى السلام معنا


وغدرتْ بنا ؛ لأن الصهاينة ليس لهم أمانٌ 


والكل يجرى ...الكل يهرعُ ...

الكل مذعورٌ...


والكل يتذكرُ الله الذى نسيه ...


- فهذه أم هرعتْ تاركةً رضيعها على

فراشه
  لتنجو بعمرها ، ولكنَّ دَرج

المنزل انهار بها
  لتموتَ هى

 فى حين ينجو رضيعُها !...


- وهذا صبىٌّ وقد حمل جدته العجوز

 على كتفه
  ، وانطلق بها للشارع

 قبل انهيار المنزل ...


وهذه زوجةٌ جديدةٌ وقد هرعتْ

 للشارع مفزوعةً
  ، ولم تنتبه

بأنها بملابسها الداخلية ....


أما أكمل :

 فلقد احتضن زوجته وطفلته


فى حين أصرتْ أمه أن تظل على

 سجادة
  الصلاة ، وأكملتْ صلاتها

 ولكنَّ منزلهم الجديد
  ، والذى

 لم يبنيه مهندسو العصر الحديث بضمير


قد هوى وانهار فى غمضة عين

 فى حين
  وقفتْ الأهرامُ التى بنيتْ

 منذ آلاف السنين
  شامخة لاتهتزُّ

 أبداً لعوارض الزمن ! ....


و راح أكمل فى إغماءة قليلةٍ :

 ثم استيقظ ؛ ليجدَ
نفسه تحت

الأنقاض ، وأخذ يتنفسُ بصعوبةٍ


وسط الركام ، وبدأ يتحسسُ حوله

 فوجد
  بجواره زوجته وطفلته يئنان

فى جراحهما
  وأخذوا يصرخون ...

يستنجدون ... يستغيثون ...


ينادون ، ولايسمعُ أحدٌ ندائهم...


ومرَّتْ الساعاتُ متثاقلةً ...

بطيئةً بطءَ السحاب


واشتدَّ الإجهادُ ، وبدأتْ طفلته

 هايدى تعانى
من الظمأ الشديد

 وأكمل حائرٌ وعاجزٌ عن


تخفيف آلامها ، فاضطر أنْ يتبولَ

على ملابسه
  الداخلية العُليا

 ليعطيَها لطفلته ؛ حتى ينقذها


من الموت ظمأً ، لكن طفلته تقززتْ

رافضةً
  وظلتْ على عطشها الشديد

ومازالتْ ترددُ : إنى ظمآنةٌ يا أبى


ولم تسعفه دموعه التى جفَّتْ

 حتى تهاوتْ
  طفلتُه بين يديه

 وصعدتْ روحُها إلى السماء


لترتاحَ من آلام عجزَ الأقوياءُ عن تحملها


فصرختْ الأمُ صرخة هيستيريةً مدويةً

فى ذلك
  القبر القدرى ، حيث امتلأ

قلبُها بالحسرة والآلام ...


وفى اليوم الثانى لم تتحملْ

الأمُ الأسبانية آلام
  الظمأ ، وقسوة

 الجوع ، وصدمة فراق طفلتها


فلحقتْها إلى العالم الآخر ، ووجد

 أكمل نفسه
  وحيداً حياً فى قبر ضمَّ

زوجته وطفلته ، وأمه
  على بُعد

 خطواتٍ منه ، فتذكَّر سيدنا يونس


- عليه السلام - فى بطن الحوت


فنادى ربه متهدجاً :


لاإله إلا أنتَ سبحانَكَ إنى كنتُ

 من الظالمين ...


وفى اليوم الثالث :

أخذ العمالُ يرفعون أنقاضَ


المنزل المتهدم ، فسمعوا أنين

استغاثة يتهادى
  من الأعماق

 فجاءتهم الأوامرُ بالحذر فى الحفر


حتى يتبينوا حقيقة ذلك الصوت ، وجاءتْ


عدساتُ التلفزيون ؛ لتصورَ ذلك الحدث


وأكمل لايفقدُ ثقته بالله ، وقد تهيَّأتْ

 نفسُه
  للوفاة ، وظل يرددُ الشهادتين

وغفا قليلاً .....


أفاق أكمل على صوت الحفر الذى

اقترب منه
  ،فظن أنهم ملائكة القبر

وقد جاءوا ؛ ليحاسبوه
  على أعماله

 فى الدنيا ، فازداد رعباً ، وعلا


صراخُه ، حتى تيقَّن عُمَّالُ الحفر

 من وجود
  شخص حىٍّ تحت الأنقاض

فأسرع الجميعُ
  لإنهاء الحفر ، حتى

 أشرقتْ شمسُ الحياة على


ذلك القبر المظلم تحت الأنقاض

 فوقف العُمَّال
  مذهولين أمام تلك

 المعجزة ، والكل يبكى
  ويردد :

 الله أكبر ... الله أكبر


والملايينُ أمام شاشات التلفزيون

 تبكى بحاراً
  من الدموع ذاكرة الله

 - تعالى - فى لحظةٍ
  من الصفاء

البشرىّ...


أما أكمل :

 فلقد تغيَّرتْ حياته تماماً بعد هذا الحادث


الرهيب ، وأصبح ملازماً للمسجد فى

 كل الأوقات
  ، وزهد الحياة بكل مافيها

 من ترف وغرور...


وكلما سجد فى الصلاة اغرورقتْ

 عينُه بالدموع
  ؛ ليبث لله شكواه

 وآلام وحدته ، بعدما فقدَ


زوجته وأمه وطفلته ...


ومرَّتْ عدة أعوام على ذلك الحادث

 حتى جاء
  يومُ العيد ، وامتلأتْ ساحة

المسجد على آخرها
  ، والكل فرحانٌ

 بيوم العيد ، وبينما أكمل يسجدُ


إذا به يسمعُ صوت طفلته الراحلة

 هايدى ترددُ :


أنا ظمآنةٌ ياأبى...


فنزفتْ دموعُه غزيرةً ، وتذكَّر عجزه

 أنْ يسقيَها
  تحت الأنقاض ، ولكنَّ

 طفلته ابتسمتْ قائلةً له :


إنى ظمآنةٌ ياأبى للقائكَ


تعالَ الآن لتكون معنا


أنا وأمى وجدتى ...


وانتهتْ الصلاةُ وأكمل مازال ساجداً

فذهبَ
  له المصلون ؛ ليتبينوا حاله

فوجدوه وقد
  فاضتْ روحُه صاعدةً إلى

 ربها ، فكبَّر الآلافُ
  فرحين بموت

 أكمل ساجداً ، وقد تمنى الكل


لو تكونُ تلك النهاية نهايته ، وتهيأوا

ليصلوا
  عليه صلاة الجنازة ، ونظر

 إمام المسجد الذى
  يعرف أكمل

 ويعرفُ حكايته
  ليردد قول الله تعالى :

(وما تدرى نفسٌ ماذا تكسب غداً


وما تدرى نفسٌ بأى أرض تموت )


تمت بحمد الله

بقلمى
سمير البولاقى


ملحوظة : استوحيتُ هذه القصة الحقيقية من حديث مسجل للبطل الناجى من الزلزال بالتلفزيون المصرى عقب خروجه من تحت الأنقاض ، وأرجو ممن ينقل قصتى إلى أى موقع آخر بأن يكتب أسفلها كلمة منقووول منعاً للإحراج ، لأنى أتابع قصصى على كل مواقع البحث ، وكذلك فإن قصصى مسجلة بكل الطرق القانونية لضمان حفظ حقوقى الأدبية ، وللجميع تحياتى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق