الجمعة، 19 أكتوبر 2012

عندما بكى الطفل سعيد ( قصة قصيرة بقلمى )


 مشاهد متنافرة....من زحام القاهرة




المشهد الأول


خرجتْ أم سعيد من أقصى أطراف الحى الشعبى

العتيق بقلب القاهرة والمسمّى ( حى بولاق )

وقد سحبتْ طفلها الصغير سعيد ، والذى بلغ

الخامسة من عمره ، وعلى ذراعها الآخر حملتْ

طفلها الرضيع ، وسارتْ فى ذلك الحىّ الذى

جمع كل طبقات المجتمع المتناقضة ، فودّعتْ

حارتها الصغيرة بالثلث الشعبى الذى سكنه

العمال وصغار الموظفين ، وامتلأ بالشباب

العاطل ، ومظاهر التشدد الدينى ، والإدمان

للمخدرات ، وكل مظاهر الانحراف الإنسانىّ ،

ثم اتجهتْ إلى الشارع العمومى ؛ والذى تقطنه

الطبقات المتوسطة حيث يسكن الأطباء

والمعلمون وصغار التجار ، ومازالتْ تسيرُ

هائمةً بين التناقضات الطبقية حتى وصلتْ إلى

الثلث الآخير الثرى ووقفتْ تنتظرُ العربة

( الأتوبيس ) المتجه إلى حى العجوزة الراقى ،

وقد امتلأ المكانُ حولها على مدخل حى بولاق

بكل مظاهر البذخ ، والأبراج الشاهقة التى

حجبتْ نهر النيل عن غيرها ، فهاك مبنى

التلفزيون المصرى ، وتلك وزارة الخارجية ،

وذلك فندق الهيلتون ، وذلك شابٌ ثرىٌّ يسيرُ

بكلبه ؛ ليخيفَ به السائرين !...

ثم ركبتْ عربة الفقراء ( الأوتوبيس )

وبجوارها طفلها سعيد ، والذى جُرِحتْ قدماه

الحافية من الأحجار الملقاة على جانبى الطريق

، وقد أخذ يحملقُ فى أقدام الناس ، ويحلمُ بأنْ

يرتدىَ ذات يومٍ حذاءً ، ولكن هيهات !!!...


المشهد الثانى

دخلتْ أم سعيد منزل شقيقتها الثرية ، التى

تزوّجتْ من رجل أعمال مسن ، وقد ظهر على

أختها مظاهر الراحة المادية فى وجهها

الوردىّ ، على عكس أم سعيد التى ذبل وجهُها

، من آثار الفقر اللعين ، ثم طلبتْ أم سعيد من

أختها لو تكلّم زوجها الثرىّ ؛ ليوفرَ أى عملٍ

لزوجها العاطل منذ شهرين ، فطأطأتْ شقيقتُها

رأسها بكبرٍ ، ثم قالتْ : سنرى ذلك ....

وأرادتْ أم سعيد الانصراف ، واستحتْ أن تطلبَ

أى معونةٍ ماديةٍ من أختها ، لكن أختها طلبتْ

منها لو تساعدُها فى تنظيف المنزل ؛ لأنَّ

الخادمة زوجة البواب ، قد تأخرتْ اليوم ، رغم

أنها تسكن فى قاع المنزل (البدروووم )

فاضطرتْ أم سعيد إلى تنظيف منزل أختها ،

وأخذتْ تمسحُ بلاطه بدموع المهانة وذلّ

الحاجة ، ولم تمضِِِِِ ساعةٌ ؛ حتى حضرتْ

الخادمة زوجة البواب ،فأرادتْ أم سعيد

الانصراف ، لكن الخادمة أشفقتْ على الطفل

سعيد الذى يسير حافياً مجروح القدمين ،

فنزلتْ بسرعة إلى شقتها بأسفل المبنى تحت

الأرض ( البدروم ) ، وأحضرتْ حذاءً قديماً من

أحذية ابنها المتهالكة ، فأعطته لسعيد الذى

وصلت فرحته لأعنان السماء ، عندما ارتدى

ذلك الحذاء القديم البالى....


المشهد الثالث

سار الطفلُ سعيد فرِحاً متباهياً ، بحذائه البالى

القديم ، وأخذ يحاولُ لفت نظر المارة فى حى

العجوزة الراقى بحذائه الذى يرتديه ، ثم ركب

مع أمه عربة الفقراء ( الأوتوبيس ) عائدين

لمنزلهم فى الحارة البعيدة فى أقصى حى بولاق

، ولكن ...آه من رحلة العودة ، فلقد كانتْ

العربة تمتلأُ عن آخرها ، ووقفتْ أم سعيد

منهكةًً من الزحام الشديد ، وأخذ طفلها

الرضيع يصرخُ باكياً ، واختفى سعيد تحت

الأقدام الكثيرة ، بينما جلس شابٌ ، وقد غاب

عن الوعى ، ووضع سماعة المحمول فى أذنيه

، ولم تسمعْ أذناه صراخ ذلك الرضيع المسكين

، ومازالتْ أم سعيد تهدئُ من رضيعها الذى

أزعج الواقفين ، بينما هناك شابٌ آخر قد نظّم

شعره كالإناث ، وجلس محملقاً بعينيه فى

محموله ، يفتحُ فيه صفحات النت ، وعمتْ

عيناه أن ترى تلك المرأة البائسة التى تحملُ

رضيعاً ؛ ليُجلسَها مكانه !...وهذا رجلٌ فى

منتصف الثلاثين ، قد جلس وقد فتح جريدته ؛

ليحلَّ مابها من الكلمات المتقاطعة ، ولم يلتفت

لما تحويه من أخبار الخلاف بين الأشقاء ،

فكيف يصحو ضميره ؛ ليُجلِسَ تلك المرأة

المنهكة ، وكلما سارتْ العربة ، يركبُ أناسٌ

آخرون ؛ ليزدادَ الزحامُ ، وتعمَّ الفوضى ،

وتشتدَّ عصبيةُ الواقفين ، وفى الخلف شيخٌ كبيرٌ

قد فتح مصحفه ، وعاش فى تواصلٍ مع الله -

تعالى - أزهده عن الدنيا ومطامعها ، وبدأتْ أم

سعيد تئِنُّ من ذراعها الذى تعب من حمل

الرضيع ، وتنظرُ بحسرةٍ إلى هؤلاء الشباب ،

وقد انعدمتْ فيهم روحُ الشهامة ، ولاتدرى من

اغتال فيهم نخوة الرجال ، وتوقّفتْ العربة ربع

الساعة ؛ لمرورعربة أحد المسئولين فى

سيارته الفاخرة ، لايدرى بآلام من

فى الأوتوبيس ، رغم أنَّه مسئولٌ عن توفير

راحتهم...!!

ثم انطلق الأوتوبيسُ مرة أخرى ؛ ليعبرَ

فوق المطبات الصناعية الكثيرة ، والتى

تهزُّ الواقفين بعنفٍ ؛ لتدوسَ الأقدام ذاك

الضعيف الذى يسقط مع الهزات، وإذا بأحد

الرجال يدوسُ قدم الطفل سعيد ؛ فينفصلَ حذاؤه

الأيمن عن قدمه ، ويتدحرج رويداً رويداً بأقدام

الحشود الواقفة ، ويقع الحذاء خارج العربة من

بابها المفتوح ، بينما تنطلق العربة ، وسط

ذهول سعيد !!!..ولم يتمالكْ الطفلُ سعيد نفسه

من البكاء الذى وصل للنحيب ، كمن مات أبوه

، وتركه يتيماً يواجهُ الحياة وحيداً !!..

وتحوّلتْ مشاعرُ الناس بين التعجب والشفقة ،

وبين العطف والانزعاج من نحيبه الذى امتزج

بصراخ شقيقه الرضيع ، مكوِّناً عزفاً حزيناً من

الموسيقا الجنائزية ، وقد حاول أحدُ الطيبين

إخراج بعض النقود ؛ ليعطيها للطفل الباكى ؛

كى يشترىَ حذاءً جديداً ، فرآه أحدُ اللصوص

الصعاليك ، فأخذ ما فى جيبه دون أن يشعرَ

بذلك ، فصرخ الرجل المسروق ، فالتفت له

الناسُ ، ونسوا نحيب الطفل سعيد ...

ووصلتْ العربة ( الأوتوبيس ) لحى بولاق ،

أمام مبنى التلفزيون المصرى ، وقد خرج منه

بعض الممثلين ، والذين بدتْ على وجوههم

مظاهرُ البذخ ، واستأنفتْ أم سعيد سيرها ،

وهى تحمل طفلها الرضيع الذى يصرخ من ظلم

الإنسان ، وتجر باليد الأخرى طفلها الباكى

سعيد ، والذى سار كالأعرج ، حيث يرتدى

الحذاء الأيسر ، وأما يمناه فحافية امتلأتْ

بالدماء والجروح .....

تمت بحمد الله

بقلمى
سمير البولاقى

ملحوظة : أرجو من الأخوة الكرام الذين ينقلون قصصى إلى مواقع أخرى ؛ بأن يكتبوا أسفل قصصى كلمة ( منقول ) منعاً للإحراج حيث إننى أتابع قصصى على كل مواقع البحث ، و إن كل قصصى مسجلة بكل الطرق القانونية ؛ لضمان حفظ حقوقى الأدبية....وللجميع تحياتى ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق