الجمعة، 19 أكتوبر 2012

وداعا يادنيا ( قصة قصيرة حقيقية بقلمى)

 
فاجأنى ابن أخى بطلب غريب ، وهو الذهاب معه

للجامعة باعتبارى ولى أمره ، نظراً لغياب والده

المسافر للخارج ، حيث إنه قد تسبّب فى مضايقة

الأستاذة فى الجامعة ، حيث إنه فى الصف الأول

من كلية الآداب قسم التاريخ ، فوجدتُها فرصةً

للذهاب إلى نفس المكان الذى تركتُه منذ أحد

عشر عاما....ودلفنا إلى الجامعة ، وحانتْ منى

التفاتةٌ حزينةٌ إلى نفس الركن الهادئ الذى شهد

حبى الأول ، وكيف أصبح ذكرىً حزينةً ، بعد زواج

مَن أحببتُ بطبيبٍ قطف زهرةً ملكاً لغيره عنوةً

فترك صاحبها غايةً فى الحزن ، ثم انتبهتُ على

صوت ابن أخى وهو ينبهنى بأنْ أحذرَ فى كلامى

مع هذه الأستاذة الجامعية العانس المعقدة

والتى ترتدى الثياب السوداء دوماً ، ولا تبتسمُ

أبداً ! حتى سُمِح لنا بلقاءها ، وأنا مازلتُ أفكرُ

فى انتقاء الكلمات المناسبة ؛ لتعفوَ عن

ابن أخى المشاغب ، حتى تجمدتُ عند لقياها :


أنتِ...أنتِ منال؟! خطيبة المرحوم...


فدهشتْ لمعرفتى لها ، ثم أشارتْ لابن أخى

الصبى بأنْ ينصرفَ ، ويعتبر أنّها قد عفتْ عنه

ثم طلبتْ مِن العامل المخصص لمكتبها بأنْ

لايزعجها بأىّ زائرٍ ، ثم طلبتْ منى انتظارها

لحظاتٍ ؛ حتى تنهىَ مكالمةً تليفونيةً ، وهنا

انفجرتْ داخلى الذكريات الحزينة ، باعثةً

أدخنةً مِن المرارة والحسرة والألم ...



تذكرتُ عندما كنتُ فى العشرين من عمرى

وفى الصف الثانى مِن الجامعة ، أدرسُ فى

قسم اللغة العربية ، حيث طلبَ منى صديقى

الذى يدرسُ القانون فى كلية الحقوق المجاورة

فى نفس جامعة القاهرة بأنْ أذاكرَ معه فى جوٍّ

هادئٍ فى مكتب المحاماة الذى يملكُه أبوه

حيث إنّ أباه يحضرُ إلى المكتب أربع ساعات

فقط يومياً من السادسة إلى العاشرة مساءً

وظللنا نذاكرُ سوياً هناك ، حتى فُوجِئتُ ذات

يوم خريفىٍّ منذرٍ بأمطارٍ رعديةٍ شديدةٍ ، بشابٍ

ذى عيون خضراء منكسرةٍ حزينةٍ ، يسألنا ماذا

نشربُ ، فطلبنا الشاى ، وأما هو فلايتكلمُ كثيراً

ولايبتسمُ أبداً ، وبعد أيامٍ ، فوجئتُ به يسألنى

عن بعض القواعد النحوية ، حيث فهمَ مِن

كلامى بأننى أدرسُ فى قسم اللغة العربية

فتعجبتُ لقوله وبادرتُه :


بصراحةٍ شكلكَ أكبر منى بأربع سنوات تقريباً

ومع ذلك تسألنى عن منهج الثانوية؟ !...


فأخبرَنى بأنّه يدرسُ الثانوية بصفوفها الثلاثة

فى سنةٍ واحدةٍ ، بتشجيعٍ من والد صديقى

المحامى ، ومرتْ الأيام ، وأصبحنا أصدقاءً ثلاثةً

وعرفتُ عنه ذكائه الشديد ، وعشقه للكفاح

وظروفه الاقتصادية الصعبة ، حيث كان الأول

على زملائه فى الإعدادية ، وتوفى أبوه يوم

النتيجة ، فضاعتْ فرحته ، ويومها قالتْ له أمه :


يادياب ياابنى أنتَ ولدى الوحيد ورجلى الآن

ومعاش أبيكَ لن يفى حاجاتنا نحن الخمسة

أنا وأنتَ وشقيقاتكَ البنات الثلاثة ، ولذلك

فلن تستطيع دخول الثانوى العام ، والوصول

للجامعة ، ولذلك فليقتصرْ طريقك على التعليم

المتوسط التجارى السهل ؛ لتتوظفَ به مكان أبيكَ

ولتعمل الآن فى أى محلٍ ؛ حتى تنهى

تلك السنوات الثلاثة من الدراسة ....


وانتهتْ سنواتُ الدراسة القصيرة ، وتوظّف

مكان أبيه فى نفس المحكمة ، نعم وظيفة

صغيرة تسمى مُحضَر بحيث يبلغ الناس بموعد

المحاكمات ، أو بالضرائب المستحقة ،وخلافه....

ثم نجح فى الثانوية بتفوقٍ ، والتحق بأمل حياته

وهو كلية الحقوق ، وأصبح القضاة فى وظيفته

بالمحكمة يشجعونه ، ويعدونه بالحاقه بسلك

النيابة بعد التخرج ؛ ليصبحَ بعد سنواتٍ قاضياً

مثلهم ، وهو لايصدق عينه ، بأنّ أحلامه ستتحققُ

بعد أربع سنوات فقط من الجد ، وكم كان صعباً

عليه أنْ يذهبَ لعمله فى المحكمة صباحاً ، ثمّ

يأتى للجامعة ظهراً ، وقد أصبحتُ أنا فى السنة

الثالثة ، ثم يذهبُ لبيته عصراً ؛ ليذاكرَ ، ثم يذهب

لمكتب والد صديقى المحامى ؛ للخدمة به ، حتى

مرتْ السنة الأولى مِن الجامعة ، وأصبح هو فى

السنة الثانية ، وأصبحتُ أنا فى السنة الرابعة

والآخيرة ، فإذا بفتاةٍ تعجب به اسمها منال ويدق

قلبه للحب لأول مرة ، نعم إنّه الحب الذى لايعترفُ

بأىّ مشاغلٍ ، ولايؤجل ظهوره لحين تحسُّن

الظروف ، واستمرتْ العلاقة العاطفية قويةً بينهما

وكانتْ هى فى الصف الأول ، ولكنّ والدها يصرُّ

على تزويجها برجلٍ ثرىٍ ، فطلبتْ منه التقدم

لخطبتها ، وكيف وأنه لايملكُ شيئا ، وفى رقبته

أمه وثلاث شقيقات ، فأقنعتُُه بأنْ نكتتبَ - نحن

زملائه - كلٌّ بما يقدرُ عليه ؛ لشراء دبلةٍ ذهبيةٍ لها

ونشترى له هو دبلةً فضيةً ، وقابلنا أباها نحن

الأصدقاء الثلاثة ، فرفضَ فى البداية ، ولكننى

أقنعتُه بأنّ هذا الفتى رجلٌ بمعنى الكلمة ، وإنّه

سيصبحُ وكيلاً للنيابة بعد سنتين ، ثم يُرقَّى

لقاضى ، فاقتنعَ أبوها بحجتى ، ومرتْ أيامٌ

قليلةٌ مِن السعادة الآخيرة ، وكلما رأيتُ

ابتسامته الحنون ، قال لى متأثراً :



لاتنخدعْ بابتسامتى ياصديقى ، فسيأتى

يوم تكتبُ فيه للناس عن مأساتى ؟



وأتعجبُ مِن منطقه ، حتى مرضتْ أخته الكبيرة

بضيقٍ فى شرايين القلب ، مما استلزم معه

إجراءُ عمليةٍ جراحيةٍ سريعةٍ ، لكنّها ستتكلفُ

بعض المئات من الجنيهات ، فوقفَ عاجزاً لايدرى

مايفعله ، حتى ذهب ذات صباح لممارسة عمله

بإخطار صاحب محل كبير بإغلاق المحل نظراً لعدم

تسديده الضرائب المستحقة ، فقال له صاحب

المحل بأنْ يقولَ بأنّه لم يره ، وسيكافئه على

ذلك بمائتين من الجنيهات ، وإنه سيعطيه مائة

جنيه الآن ، وبعد ساعتين عليه أنْ يمرّ عليه

ليحصلَ على المائة الأخرى ، وظلتْ نفسُه

تصارعه ، وكيف يقبل الرشوة ؟ ، ولكنّه يحتاجُ

النقود الآن لإجراء العملية لأخته ، فانتصرَ عليه

الشيطانُ !!! وأسرعَ للمستشفى ؛ ليدفعَ مقدم

الأتعاب ، وحضرَ بعد ساعتين لصاحب المحل

الذى أعطاه المائة الأخرى ، وما إنْ أمسكَ

الورقة النقدية ، حتى فؤجئ برجال الشرطة

يضعون فى يديه القيود الحديدية ، بناءً على

بلاغ صاحب المحل ، بأنه يتهم الموظف الحكومىّ

بالرشوة ، مؤكداً أنّه رجلٌ شريفٌ محبٌ ومخلصٌ

لبلاده ، وسيدفع كل ماعليه من ضرائب عندما

تتحسن ظروفه ، ودخل السجن !!! وتبخرتْ كل

أحلامه البعيدة ، ففصلتْه المحكمة من وظيفته

وفصلتْه الجامعة من الكلية ، وأما والد خطيبته

فلقد ردّ إليه دبلته اليتيمة ، وقال لابنته بأنّه

سيكون خريج سجون ، فلن يدخلَ المحكمة

قاضياً بل سجيناً مجرماً....وكانتْ النهاية هى

وفاة أخته ضحيةالفقر ...ضحيةالأغنياء البخلاء ...

ضحية الأطباء الجشعين الذين انُتزعَتْ الرحمةُ

مِن قلوبهم ، فغدوا عباداً للمال وحده !! بل

ضحية مجتمعٍ رقدَ ضميرُه رقدته الأبدية فى

سباتٍ عميقٍ لا أملَ فى إيقاظه !! .....وذهبنا

لتعزيته فى السجن ، فوجدناه جثةً هامدةً ....

فلقد ودّع تلك الدنيا الظالمة ، وقطع شريان يده

وكتب بدمائه على حائط السجن آخر كلمةٍ

فى حياته وهى :

وداعاً يا دنيا !!

وإنْ عشتُ ماعشتُ فما أرانى أبكى مثل ذلك

اليوم الذى مرّتْ فيه الجثتان : جثة صديقى

وجثة شقيقته ، وآه....آه...ثم آه...

مِن مشهد تلك الأم الثكلى المكلومة ، رأيتُها

وهى تفترش الأرض ، وتضعُ التراب على رأسها

وتذكرتُ قولته وهو يبتسم ابتسامةً صفراء

عندما قال لى :

لاتنخدع بابتسامتى ياصديقى ، فسيأتى

يوم تكتب فيه للناس عن مأساتى...

لكننى هربتُ مِن أحزانى وأخذتنى سنواتٌ طويلةٌ

تناسيتُ فيها ألم الفراق ، لكننى أبداً لم أنسَه...


ثم تنبهتُ من غفوتى ، وقد أنهتْ حبيبتُه

منال تليفونها ، وقالت لى :

على فكرة إنى أبداً لم ولن أنسى صديقكَ ، فأنا

لم ولن أتزوجَ أبداً ، ولن أغيرَ الملابس السوداء

حزناً عليه ، ووضعتُ همى كله فى الدراسة بعد

أنْ حوّلتُ نفسى إلى كليةٍ أخرى غير الحقوق...


ووجدتُنى عاجزاً عن الكلام معها ! .فودّعتُها

بدموعى التى أبتْ أنْ تتوقفَ ، وخرجتُ مِن

الجامعة ، فحانتْ منى التفاتة ليس إلى مكان

حبيبتى القديمة ، بل إلى مكان لقاء صديقى

بحبيبته....وتذكّرتُ آخر ما خطتْه يداه على

حائط السجن بدمائه

ودااااعا يا دنيا......

تمت بحمد الله - تعالى -

بقلمى
سمير البولاقى

ملحوظة : أرجو ممن ينقل قصصى لأى موقع اخر بأن يكتب أسفلها كلمة ( منقول ) ، حتى لا يتعرض للإحراج ؛ لأنى أتابع قصصى على جميع المواقع ، وقصصى كلها مسجلة بتاريخها بكل الطرق القانونية ؛ لضمان حفظ حقوقى الأدبية...وللجميع تحياتى...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق