الجمعة، 19 أكتوبر 2012

وفاة عبد المعيد....فى ليلة العيد ( قصة قصيرة بقلمى ) مع لقائى التلفزيونى حول القصة



صورٌ متناقضة ...مِنْ ليالى القاهرة


ما أجملَ ليلة العيد ! ...ما أحلى نسماتها الربيعية


التى تنتشى لها النفسُ !...وتطربُ لها


الروحُ ...وتغرّدُ لفرحتها الدنيا...



....جلستُ فى تلك الليلة خارج المقهى ، أرقبُ حركة


السائرين ، وأتحاورُ مع أصدقائى ، وبدأ حوارُنا


مملاً عن أزمة البورصة العالمية ، وحالة


الركود الاقتصادى ، وزيادة نسبة البطالة ...



ثم ارتفع صوتُ المذياع فى المقهى ، لتشدو


(أم كلثوم ) بقصيدة ( رباعيات الخيام) الطويلة


وظلَّ الأصدقاءُ فى حديثهم الجاف ....


وانسلختْ روحى عنهم ، وبقيتُ بجسمى معهم


فأشجتْنى الكلماتُ ، ومعها حلّق الخيال :


لا تشغلْ البالَ بماضى الزمان....ولا بآتِ العيشِ قبل الأوان


واغنمْ من الحاضر لذاته.......فليس فى طبع الليالى الأمان



وظلَّتْ عينى تراقبُ حركة المارة فى الشارع


العمومى بوسط القاهرة ، وكان صاحبُ المقهى


والذى تخطّى السبعين من عمره ، يجلسُ على


باب المقهى منصتاً لأم كلثوم فى صمتٍ رهيبٍ


وقد حملقتْ عينُه نحو السماء ، وكأنّما يتذكّرُ


متحسّراً أيام شبابه المنصرم بلا رجعةٍ


وعلى يسارى جلستْ سائحتان أمريكيّتان بملابس


نصف عارية ، دلّتْ على ثقافة بلدهما ، وقد


أخذتْ إحداهما فى شرب النرجيلة المصرية


وأخذتْ تُخرجُ الدخّانَ الكثيفَ من فمها فى


الهواء الطلق النقى ؛ لتلوّثَه بنشوةٍ غريبةٍ


مقززةٍ ....ومرَّ أمامى جماعة من الشباب الصغير


وقال أحدُهم مداعباً عندما نظر للأمريكيتين :


آهٍ...آهآ... يا ليتنى كنتُ أنا تلك النرجيلة التى


فى يد تلك المرأة الغربية...


فتضاحكَ زملأؤه مقهقهين قهقهة ساذجة بلهاء


دلَّتْ على عقولهم الخاوية من أى فكر .....



ثم....ثم رأيتُ ذلك الرجلَ من بعيدٍ يجرُّ عربة


صغيرة ، وقد حملَ عليها الفول السودانى


وكلما رأى بعضَ المارة استجداهم متوسلاً


بعيونه الحزينة ، والتى تلألأَ بريقُها الشجىُّ


مع أنوار القاهرة الساحرة ليلاً ، ولكنَّ الجميعَ


رفضَ الشراءَ منه ، فالكل مشغولٌ بأمرٍ يخصُّه


ولا يلتفتُ بأىّ عطفٍ لنداء ذلك الشيخ الحزين


إنَّهعم عبد المعيد الذى أتابعُه - منذ صغرى -


وهو يدورُ يومياً بعربة الفول السودانى ، وظلَّ


يقتربُ من مجلسنا ، ووقف أمامنا مستجدياً أنْ


نشترىَ منه ، فرقّ قلبى لحاله ، وأعطيتُه بعضَ


النقود ، وتعففتُ عن أخذ شيئٍ مما يبيعُ ، فحمدَ


الله شاكراً ، ثم قبَّل النقودَ ، ونظرَ الى السماء


فوقعَ على الأرض مغشياً عليه ، فالتففنا حوله


نساعده كى يفيقَ...


وعلى الفور قامتْ المرأة الأمريكية التى جلستْ


على يسارى ، وتحدَّّثتْ بلكنةٍ انجليزيةٍ عاميةٍ


لتخبرَنا بأنها طبيبة ، ثم أخذتْ تفحصُ بطنه


ثم طلبتْ منا بأنْ ننقلَه فوراً إلى المستشفى ؛ لأنه


يحتضرُ ، ويجبُ الإسراعُ بعلاجه .....



وازدادَ تجمُّعُ المارة حولنا ، وخرجَ أحد البائعين


من المحل ؛ ليشاهدَ ما يجرى ، فإذا بصاحب المحل


ينهرُه ويسبُّه ، ويذكّرُه بأننا ليلة العيد ، مما يعنى


الكثير من بيع الملابس الراكدة عندهم منذ شهور


ولا يحقُّ له تركُ المحل ؛ لمشاهدة من يموت ...



ثم مرَّتْ أسرة من رجلٍ وامرأته وثلاثة أطفال


وأراد الرجلُ التوقّفَ ؛ لمعرفة سر تجمّع المارة


فنهرتْه امرأتُه بنظرةٍ مهددةٍ ، ثم حذّرتْه بأنَّ


ذلك الزحام ربّما امتلأَ باللصوص الذين يسرقونه


دون أنْ يشعرَ ، وأيضاً لأنهم فى عجلةٍ من أمرهم


للمرور على عشرات المحلات ، ولا داعى للعطلة


فخاف منها وليس من اللصوص ، وسار خلفها


كالخروف فى القطيع ....



وأخذنا نتشاورُ : كيف نُسعفُ ذلك المحتضر


المسكين ؟ ...وحذّرنا البعض من الاتصال بالاسعاف


حتى لا نتعرّض للسؤال والجواب ، وربما احتجازنا


فى قسم الشرطة ، حتى يتمَّ تشريحُ الجثة للتأكد من


أنَّ سببَ الوفاة طبيعىٌّ ، وليس هناك شبهة جنائية


فى الموضوع !...ولكننا من منطلق إنسانيتنا


ومراكزنا الاجتماعية المرموقة ، صممنا على


استدعاء الإسعاف ، فقال لنا البعض الخبير بتلك


الأمور ؛ بأن سيارة الإسعاف ستأتى بعد ثلاث


ساعات على الأقل ، ومن ثمّ فلن يكونَ هناك أمل


فى إنقاذ ذلك المحتضر ، فقررنا أن نحملَه لأقرب


عيادةٍ متخصصةٍ فى وسط القاهرة ، وحملناه


بسرعة ، وتركناه مع الطبيب ......



وأخذتْ الممرضةُ تُحصِّلُ منَّا مئات الجنيهات مقابل


الدخول والخروج ، والكشف والأشعّة والدواء


وخدمة النوم فى الفراش ، فأحسستُ بأننى فى


فندق خمس نجوم ، وليس فى عيادة طبيب !!


....وجلسنا أنا وأصدقائى فى صمتٍ ننتظرُ بلهفةٍ


ما يقولُه الطبيبُ ، فقطعتْ الممرضةُ ذلك الصمت


لتفتحَ المذياعَ بصوتٍ هادئٍ جميلٍ ، وتستمرُّ


أم كلثوم فى قصيدة رباعيات الخيام وتشدو :


غدٌ بظَهر الغيب واليومُ لى ........وكم يخيبُ الظنُّ فى المُقبلِ


ولستُ بالغافل حتى أرى.............. جمالَ الدنيا ولا أجتلى


القلبُ قد أضناه عشقُ الجمال...والصدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال


ثم اعتلى العيادة سكونٌ رهيبٌ ، وانطفأتْ أنوارُ


حجرة الكشف ؛ ليخرجَ الطبيبُ معلناً بتأسّفٍ عن


وفاة عبد المعيد ، وعلى الفور حضرَ أهله الذين


علموا من البعض بما جرى ، وبكاه ابنه متحسّرا :


إنَّه أبى ، وعمره ثمانون عاماً ، وهو يعملُ - رغم


شيخوخته - ليساعدَنى على تربية أبنائى السبعة


رحمكَ الله ياأبى الحنون ...


ثم حملَ جثة أبيه ، بعد أنْ شكرنا ، وذهبَ به


إلى مثواه الآخير ...


وودَّع عبد المعيد تلك الدنيا الظالمة ، التى لا ترحمُ


شيخاً ، ولا فقيراً بائساً ....



ثم عدنا إلى المقهى وقد سيطرَ علينا الحزنُ والوجومُ


وتحوَّلَ حديثُ أصدقائى إلى الموعظة من الموت


وما يحدثُ فى عذاب القبر ، ونسوا الأزمة


الاقتصادية العالمية والبطالة ، وتذكّرتُ أبيات


الشاعر العباسىّ المتنبى التى قالها حزيناً


فى غربته ليلة العيد :


عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ.....بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ


أما الأحبة فالبيداءُ دونهم..........فليتَ دونكَ بيداً دونها بيدُ


لم يتركْ الدهرُ من قلبى ولا كبدى...شيئٌ تتيمُه عينٌ ولا جِيدُ


ثم شردتْ روحى مع أم كلثوم التى كانت تستعدُّ


لإنهاء قصيدة ( رباعيات الخيام ) :


يامن يَحارُ الفهمُ فى قدرتكَ.....وتطلبُ النفسُ حِمى طاعتكَ


أسكرنى الإثمُ ولكننى ........صحوتُ بالأمال فى رحمتكَ


إنْ لم أكنْ أخلصتُ فى طاعتكَ...فإننى أطمعُ فى رحمتكَ


وإنما يشفعُ لى أنى ..........عشتُ لا أشركُ فى وحدتكَ



ومازال صاحب المقهى المُسنُّ يحملقُ فى السماء


وقد لمعتْ عينُه بدموعٍ عزيزة مع كلمات أم كلثوم


وقد غاب تماماً عما يحدثُ حوله من تناقضاتٍ


عصريةٍ حديثةٍ ، وتوقّفتْ حياتُه


مع زمن الفن الجميل...



ثم مرَّ بائعٌ آخرٌ مُسنٌّ يَجرُّ عربة الفول السودانى


ويشدو بصوتٍ متحشرجٍ ؛ ليلفتَ الناسَ إلى جودة


مايبيعُ ، وأخذ يشدو متنهداً :


ترللى...ترللى...دوق أحلى فول من عبد المتجلى


تمت بحمد الله - تعالى -


بقلمى
سمير البولاقى



ملحوظة : أرجو ممن ينقل قصصى الى منتدى أخر بأن يكتب أسفلها كلمة ( منقول ) منعاً للإحراج ؛ حيث إن كل قصصى مسجلة بتاريخها بالمحاكم المصرية ...تحياتى للجميع ويلاحظ إننى سجلت لقائى الأول بالتلفزيون حول تلك القصة كما هو موضح بالفيديو المعروض

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق